ابخل الناس من بخل بالسلام
ليس هناك داء أدْوى ولا أقبح وأبشع من البخل، والبخل أنواع، والبخلاء كثر، وكل أنواعه مذمومة، وكل أصنافه مكروهة، إلا البخل بالدين فإنه محمود، فلا يحل لأحد أن يتنازل عن دينه ولا يرضى بالدنية فيه.
ومن الناس من يبخل بماله، وهذا هو الغالب، ومنهم من يبخل بعلمه ولا يحب أن يبذله لأحد أبداً، سواء كان علماً شرعياً، أوعلماً دنيوياً كالصناع والحرفيين، فمنهم الأسخياء الناشرين لعلمهم، المعلمين لتلاميذهم المشجعين لهم، ومنهم البخلاء، الحاسدين لتلاميذهم، الكاتمين لمعارفهم.
ومن أنواع البخل الذميمة والعادات الرذيلة عدم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر، كما أخبر بذلك رسولنا: "البخيل من ذكرتُ عنده ولم يصلِّ علي" الحديث.
وأبخل وأرذل الجميع الذي يبخل بالسلام، ويضن بتحية الإسلام على إخوانه المسلمين، حيث لا يكلفه ذلك إلا فتح شفتيه وتحريك لسانه، ومن الناس من لا يسلِّم إلا على من يعرفهم، وهذه من علامات الساعة المؤذنة بقربها: "السلام بالمعرفة"، ومنهم من لا يسلِّم على كل من يعرفهم، وإذا سُلم عليه لا يرد، علماً بأن السلام سنة ورده فرض.
وهذا الصنف من البشر أبغض الخلق إلى الله وإلى عباده.
قال المناوي معلقاً1 على قوله صلى الله عليه وسلم: "وأبخل الناس من بخل بالسلام": (أي أمنعهم للفضل، وأشحهم بالبذل "من بخل بالسلام" على من لقيه من المؤمنين، ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم، فإنه خفيف المؤنة، فلا يهمله إلا من بخل بالقربات، وشح بالمثوبات، وتهاون بمراسم الشريعة، أطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام، وجعله أبخل لكونه من بخل بالمال معذور في الجملة لأنه محبوب للنفوس، عديل للروح بحسب الطبع والغريزة، ففي بذله قهر للنفس، وأما السلام فليس فيه بذل مال، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق، فهو أبخل من كل بخيل).
أرجو أخي المسلم أن تقارن بين حال البخيل بالسلام، وبين حال الصحابي الكبير والشيخ الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الذي كان يغدو إلى السوق فقط من أجل السلام، لتعرف الفرق بين الكرام واللئام، وبين المرحومين والمحرومين، فعن الطُّفيل بن أبيِّ بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على ساقط2، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه؛ قال الطُّفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدث؛ فقال: "يا أبا بطن – وكان الطفيل ذا بطن – إنما نغدو من أجل السلام، فنسلم على من لقيناه"3.
وإفشاء السلام من حق المسلم لأخيه المسلم، وهو سبب من أسباب دخول الجنة: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"4، ومن جاء بصيغة السلام الكاملة، وهي: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فله ثلاثون حسنة، وكذلك رادُّ السلام.
فلم وكيف يظلم المسلم نفسه ويحرمها من هذا الفضل العظيم، والخير العميم، بلفظ قليل لا يكلفه درهماً ولا ديناراً؟؟